وقفات مع العشر الأواخر من رمضان
د.لطفي أبوخشيم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:فإنه ليس يخفى على كل مسلم موفق ماحضيت به ليالي العشر الأواخر من رمضان من فضل وشرف, كيف لا وقد خصها الله جل وعلا بليلة هي خير من ألف شهر وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في العبادة والطاعة في العشر الأواخر من رمضان وتحري ليلة القدر, وهذه بعض الوقفات مع العشر الأواخر من رمضان نسأل الله العظيم أن يعلمنا ماجهلنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزدنا علما.
1_الوقفة الأولى: إحياء ليالي العشر تبدأ من بعد صلاة العشاء، كان النبي صلى الله عليه وسلم، يحيي ليالي العشر الأواخر من رمضان، قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر أحيى ليله وأيقظ أهله وشد مئزره([1])، هذا هو الأفضل لمن تيسر له ذلك، وإن نام عن بعض لشيء؛ ليتقوى، فلا بأس، أما من قواه الله على إحيائها، فذلك سنة وقربة، يعني: في الصلاة، والقراءة، والدعاء، والاستغفار، والأوتار، أولى بالإحياء من غيرهما من العشر، هي متأكدة؛ لأنها أرجى بليلة القدر، والنبي صلى الله عليه وسلم، قال: «التمسوها بكل وتر»([2]) ، وفي بعض الروايات: «التمسوها في العشر الأواخر»([3]) لكن الأوتار أرجى الليالي، إحدى وعشرون، ثلاثة وعشرون، خمس وعشرون، سبع وعشرون، تسع وعشرون، وأرجاها الليلة السابعة والعشرون([4]).
2_الوقفة الثانية: من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان (الاعتكاف) وهو في اللغة الحبس والمكث واللزوم, وفي الشرع المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة ويسمى الاعتكاف جواراً([5]).
والاعتكاف هو الإقامة على الشيء، فقيل لمن لازم المسجد وأقام العبادة فيه: معتكف، وعاكف.
3_ الوقفة الثالثة: الاعتكاف مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.
ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم، شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان([6]).
4_الوقفة الرابعة: الاعتكاف عبادة شرعية وليس للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لما لا بد منه والمشروع له
أن لا يشتغل إلا بقربة إلى الله جل وعلا([7]).
5_قال الفقهاء: إن ركن الاعتكاف: لزوم المسجد لعبادة الله. ومحظوره الذي يبطله: مباشرة النساء([8]).
6_ الوقفة السادسة: الاعتكاف يستحب له طهارة الحدث ولا يجب، فلو قعد المعتكف وهو محدث في المسجد لم يحرم، بخلاف ما إذا كان جنبا أو حائضا، فإن هذا يمنعه منه الجمهور كمنعهم الجنب والحائض من اللبث في المسجد؛ لا لأن ذلك يبطل الاعتكاف، ولهذا إذا خرج المعتكف للاغتسال كان حكم اعتكافه عليه في حال خروجه، فيحرم عليه مباشرة النساء في غير المسجد، ومن جوز له اللبث مع الوضوء جوز للمعتكف أن يتوضأ، يلبث في المسجد، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره([9]).
7_الوقفة السابعة: مباشرة المعتكف لغير شهوة لا تحرم عليه، بخلاف المباشرة لشهوة([10]).
8_يجوز للمرأة أن تزور زوجها وهو في معتكفه, وأن يودعها إلى باب المسجد لقول صفية رضي الله عنها: ” كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً [في المسجد في العشر الأواخر من رمضان] فأتيته أزوره ليلاً, [وعنده أزواجه, فَرُحْنَ] , فحدثتُهُ [ساعة] , ثم قمت لأنقلبَ, [فقال: لا تعجلي حتى أنصرف معك] , فقام معي ليقلبني, وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد [حتى إذا كان عند باب المسجد الذي عند باب أم سلمة].
9_الصمت عن الكلام مطلقا في الصوم، أو الاعتكاف، أو غيرهما، بدعة مكروهة، باتفاق أهل العلم([11]).
11_الوقفة التاسعة: من نذر الاعتكاف في مسجد غير المساجد الثلاثة تعين ما امتاز على غيره بمزية شرعية([12]).
12_الوقفة العاشرة:لا يكون الاعتكاف إلا في المساجد باتفاق العلماء كما قال تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} لا يكون الاعتكاف لا بخلوة ولا غير خلوة؛ لا في غار ولا عند قبر ولا غير ذلك مما يقصد الضالون السفر إليه والعكوف عنده كعكوف المشركين على أوثانهم. قال الخليل: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} وقال تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} {إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون}([13]) .
13_النبي صلى لله عليه وسلم بعد نزول الوحي عليه لم يقرب ذلك الغار ولا غيره مما بمكة إلا المسجد الحرام والمشاعر، وكذلك لما حج إنما ذهب إلى المسجد الحرام والمشاعر، وقد ثبت في الصحيح أنها أحب البقاع إلى الله تعالى فأغنى ذلك عن غيرها، ولهذا لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد باتفاق الأئمة، ولو نذره في غير مسجد لم يوف بنذره، فإنه غير جائز([14]).
14_ المشهور من مذهب أحمد وغيره أنه لا يستحب للمعتكف إقراء القرآن والعلم، وخلوته للذكر والعبادة أفضل له، واحتجوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم([15]).
15_ ليلة القدر منحصرة في رمضان, ثم في العشر الأخير منه, ثم في أوتاره لا في ليلة منه بعينها, وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها وقد ورد لليلة القدر علامات أكثرها لا تظهر إلا بعد أن تمضي, منها في صحيح مسلم عن أبي بن كعب( أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها),وفي رواية لأحمد من حديثه( مثل الطست) ونحوه لأحمد من طريق أبي عون عن بن مسعود وزاد( صافية), ومن حديث ابن عباس نحوه, ولابن خزيمة من حديثه مرفوعاً( ليلة القدر طلقة, لا حارة ولا باردة, تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة), ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا (إنها صافية بلجة, كأن فيها قمراً ساطعاً, ساكنة صاحية, لا حر فيها ولا برد, ولا يحل لكوكب يرمى به فيها), ومن أماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر, ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ, ولابن أبي شيبة من حديث بن مسعود أيضا( أن الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان إلا صبيحة ليلة القدر), وله من حديث جابر بن سمرة مرفوعا( ليلة القدر ليلة مطر وريح), ولابن خزيمة من حديث جابر مرفوعاً في ليلة القدر( وهي ليلة طلقة بلجة لا حارة ولا باردة, تتضح كواكبها ولا يخرج شيطانها حتى يضىء فجرها), ومن طريق قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة مرفوعا( وأن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصي), وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد (لا يرسل فيها شيطان ولا يحدث فيها داء), ومن طريق الضحاك( يقبل الله التوبة فيها من كل تائب وتفتح فيها أبواب السماء وهي من غروب الشمس إلى طلوعها)([16]).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه: د.لطفي أبوخشيم.
منقول من صيد الفوائد