دراسة امتدت 59 عامًا تحذر من أن الاكتئاب يقلل سنوات العمر بمعدل 4 أعوام إلى 18 عامًا
لا يحرمك متعة الاستمتاع بلحظات الفرح وحسب، بل إنه يسرق عمرك بالمعنى الحرفي للكلمة، إنه الاكتئاب الذي يعاني منة الكثير ، ويرتفع عدد مَن يعانون منه حول العالم إلى أكثر من 300 مليون شخص من جميع الأعمار، وفق بيان صادر عن منظمة الصحة العالمية في فبراير الماضي.
كما تتهمه دراسة حديثة امتدت 59 عامًا (1952-2011) بأنه مسؤول عن الوفاة المبكرة لكثيرين، وذلك على الرغم من زيادة الوعي بخطورته وتنوُّع سبل علاجه.
تشير الدراسة، التي أجراها باحثون في “معهد يونيس كينيدي شرايفر الوطني” و”مستشفى ماساتشوستس العام” و”كلية الطب بجامعة هارفارد” و”المعهد الوطني للصحة العقلية بالولايات المتحدة” و”جامعة أوتاوا الكندية”، إلى وجود صلة وثيقة بين الاكتئاب وارتفاع خطر الوفاة المبكرة.
استخدم الباحثون برامج إحصائية لدراسة تأثير الاكتئاب وأعراضه -مثل اضطرابات النوم والشهية، والعجز عن أداء النشاطات اليومية واستمرارها- على ازدياد خطر الوفاة المبكرة.
وجد الباحثون أن أعمار الأفراد الذين يعانون من الاكتئاب في المجموعة الأولى (من مواليد 1952) أقل بـ10 أعوام إلى 12 عامًا عن نظرائهم، فيما تقل في المجموعة الثانية (مواليد 1970) بـ4 إلى 7 سنوات، ويزداد الفرق في المجموعة الثالثة (مواليد 1992) ليتراوح بين 7 أعوام و18 عامًا.
اضطراب مهدد للحياة
يتفق ما ذهبت إليه الدراسة، مع دراسة سابقة حللت نتائج 25 دراسة مجتمعية، ضمت عينات بلغ مجموعها 106 آلاف و628 شخصًا منهم 6416 مصابًا بالاكتئاب، إذ كشفت تزايُد خطر الموت المبكر عند مرضى الاكتئاب.
لكن ما يميز الدراسة الأخيرة أنها أكدت أن ارتفاع خطر الوفاة لا يرتبط بالاكتئاب الحاد أو المزمن فحسب، لكن أيضًا بمستويات الاكتئاب الأقل، لذا وصفت الدراسة الاكتئاب بأنه “أحد الاضطرابات المهدِّدة للحياة”.
وفي حين لم تقدم دراسة سترلينج سببًا قاطعًا لارتباط الاكتئاب بأمراض مزمنة، وجدت دراسات أخرى أن الاكتئاب يرتبط بزيادة خطر الإصابة بأمراض صحية مزمنة، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والسكتة الدماغية، وبالتالي، فإن الظروف الصحية المزمنة تُعَدُّ سببًا محتملًا، وفق ستيفن جيلمان، الباحث بمعهد يونيس كينيدي شرايفر الوطني لصحة الطفل والتنمية البشرية، والباحث المشارك في الدراسة.
يقول جيلمان -في إفادة عبر البريد الإلكتروني لـ”للعلم”-: حققنا فيما إذا كانت العوامل السلوكية -مثل التدخين وتناول الكحوليات أو السمنة- يمكن أن تفسِّر تلك النتائج، لكنها لم تفعل ذلك، مضيفًا أن “طول مدة الاكتئاب يؤدي إلى ارتفاع أكبر في خطر الموت المبكر. فقد لاحظنا ارتفاع خطر الوفيات بين المشاركين الذين أفادوا بمرورهم بالاكتئاب في آخر مقابلة لهم، وبالتالي، فإن المشاركين الذين أبلغوا عن مرورهم بالاكتئاب في مقابلات متعددة كان لديهم ارتفاع أكثر ثباتًا فيما يتعلق بخطر الوفاة المبكرة“.
طول التيلوميرات
تقدم دراسات سابقة تفسيرًا علميًّا لارتباط الاكتئاب بأمراض أخرى عضوية، إذ انتهت إلى حدوث نقص في طول التيلوميرات -وهي أجزاء تغطي نهايات الكروموسومات وتعمل على الحفاظ على المحتوى الجيني وترتبط بالتسرطن والشيخوخة- لدى مرضى الاكتئاب على نحو ملحوظ بالمقارنة بغيرهم من الأصحاء، موضحةً أنه “عندما يقل طول التيلوميرات إلى حد معين، تعجز الخلية عن الانقسام وتفشل في أداء وظائفها، ومن ثم يبدأ موت الخلايا”.
غير أن جيلمان لا يعتقد أن الاكتئاب فريدٌ من نوعه في هذا الصدد، ويوضح أن “دراسات أخرى وجدت أن حالات، مثل الفصام والاضطراب الثنائي القطب (الهوس الاكتئابي)، ترتبط أيضًا بخطر الوفاة، ويمكن أن تؤدي إلى عواقب خطيرة جدًّا على الصحة البدنية وعلى متوسط العمر المتوقَّع”.
النساء أكثر عُرضة
لاحظت دراسة سترلينج أن خطر الوفاة المبكرة كان مرتفعًا عند المجموعة الأولى من الرجال، في حين وجدت ارتفاعًا ملحوظًا عند النساء في المجموعة العمرية الثالثة.
بدوره، يقول إيان كولمان -أحد المشاركين في الدراسة، والباحث بجامعة أوتاوا- لـ”للعلم”: الأمر الأكثر إثارةً للقلق هو ارتفاع خطر الموت للنساء المصابات بالاكتئاب بين عامي 1992 و2011 بنحو 50%.
وتعزو الدراسة الاختلافات في معدلات خطر الوفاة المبكرة بين الرجال والنساء إلى التغيُّر الذي طرأ على دور المرأة بعد أن انضمت إلى الرجال في ميدان العمل، وما صاحبه من أعباءٍ اقتصاديةٍ ووظيفيةٍ مختلفة، فضلًا عن ضغوط قيامها بعدة أدوار.
إلى ذلك، تكشف دراسة سترلينج أن الآثار التي يخلِّفها الاكتئاب فيما يتعلق بزيادة خطر الوفاة المبكرة تستمر حتى عقدين من الزمن، لكن يمكن أن تتلاشى آثارها تدريجيًّا إذا توقف تكرار حدوث النوبات الاكتئابية.
الوعي أول الطريق
ويعلق أحمد عبد الكريم -مدرس الطب النفسي المساعد في كلية الطب بجامعة الإسكندرية- في تصريحات لـ”للعلم” على نتائج الدراسة بقوله: لا يمكننا أن نحدد بالشكل الكافي متى يصبح المتعافي من الاكتئاب آمنًا تمامًا من الآثار طويلة المدى للمرض، لكن هناك مستويات من التعافي، فهناك مرحلة التعافي من الأعراض المتعلقة باضطراب النوم والأكل على سبيل المثال، وهناك تعافٍ على المستوى الوظيفي يتمثل في استعادة الشخص لنشاطاته السابقة وانتظامه في عمله أو دراسته، وهناك تعافٍ على مستوى المرض ومن ثَم الشفاء، وفق قوله.
ويضيف أن التعافي على مستوى جزيء الحمض النووي DNA أو مستوى الخلية يستمر لفترات طويلة، وهو أمر ليس سيئًا في المطلق؛ إذ إنه يدحض الاعتقاد القديم بأن الجينات لا تتغير منذ الولادة، لكن هذا المعتقد تغيَّر مؤخرًا، إذ كشف العلم أن الجينات يمكن تعديلها، وظهر علم “التخلّق”، والذي يدرس علاقة البيئة بالتفاعل مع الجينات بالسلب أو الإيجاب، أو بمعنى آخر يدرس التأثيرات العضوية والاجتماعية والنفسية والتربوية المؤثرة على الجينات، والتي يمكن أن تجعل من توأمين شخصين مختلفين رغم أنهما أتيا من الخلية الملقحة ذاتها.
وتشدد دراسة سترلينج على ضرورة المتابعة الطبية، خاصةً للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات المزاج، وكذلك الحرص على تقديم العلاج المناسب لهؤلاء الأشخاص وتوفير الدعم لهم، مؤكدةً أنه “من المهم للغاية طلب المساعدة مبكرًا كلما أمكن؛ حتى تزداد فرص تقليل تأثيرات الاكتئاب طويلة المدى”.
وهو ما ينصح به عبد الكريم: “من الضروري طلب المساعدة حتى في حالة الاكتئاب البسيط، على أن تحدد سبل العلاج وفقًا لمدى تطور المرض وشدته، بحيث تتحسن سبل التعافي وتصبح أسرع كلما كان الاكتشاف مبكرًا”.