مع تزايُدِ الألعاب الإلكترونية التي تحاكي الطبيعة وتَعدُّدِها، وتنامي عدد طالبي العلم عبر الإنترنت، بات من المهم توصيل مفاهيم التربية البيئية إلى جمهور أوسع من التلاميذ على نحوٍ مبسط، وذلك من خلال استخدام الوسائط ثلاثية الأبعاد؛ لوضعهم في قلب الحدث، بحيث تنقلهم من خلف جدران الفصول الضيقة إلى بيئات مختلفة أرحب وأوسع، باستخدام تطبيقات الواقع الافتراضي، التي باتت تفرض نفسها على العملية التعليمية بشكل مُلِح.
هو إذًا واقع افتراضي، يمكن للتلميذ من خلاله اجتياز حدود المكان وعبور حواجز الزمان في ثوانٍ قليلة، كل المطلوب منه أن يجهز رحلته الرقمية عبر “بيئات التعلُّم الافتراضية ثلاثية الأبعاد”، وبحركة بسيطة لرأسه إلى أعلى وإلى أسفل، أو لليمين ولليسار، يستطيع التنقل في منطقةٍ ما ليراها من كل الزوايا (360 درجة).
قد يحمل الواقع الافتراضي التلميذ إلى أدغال أفريقيا؛ ليشاهد جوانب الحياة البرية بمتناقضاتها، أو يجد نفسه وهو يغوص بين الشعاب المرجانية بالقرب من أسماك القرش القاتلة أو الحيتان الضخمة في المحيط الهادئ، وقد يذهب في رحلة أخرى إلى الفضاء الخارجي؛ ليرى تأثيرات قوى ما على صاروخ في أثناء تدشينه، أو يلج إلى باطن الأرض ليدرس التغيرات الجيولوجية التي حدثت إبان العصر الطباشيري وأثرت على شكل الأرض وعلى التنوع البيولوجي على سطح الكوكب.
الخروج للطبيعة
“الطبيعة الرقمية.. هل تجعل الرحلات الميدانية شيئًا من الماضي؟”، سؤال طرحه دوجلاس ماكولاي، الباحث بقسم علم البيئة وعلم الأحياء التطوري بجامعة كاليفورنيا، في دراسة نشرتها مؤخرًا مجلة “ساينس”.
أظهرت الدراسة أن تعليم العلوم من خلال الرحلات الميدانية التقليدية يمكن أن يساعد في تغيير مواقف الطلاب نحو المجالات العلمية، وأن يعزِّز من فرص تفاعُل التلاميذ وتعاطُفهم مع الطبيعة، وكذلك تحسين قدرتهم الاستيعابية للمفاهيم العلمية. وشددت على أنه يمكن لمنصات الواقع الافتراضي والواقع المعزَّز أن تصبح إحدى الأدوات التي تسمح بالوصول -من خلال المحاكاة- إلى بيئات لا يمكن للرحلات الميدانية التقليدية الوصول إليها، مثل الأماكن النائية أو الفترات الزمنية التاريخية، لافتةً إلى أن الأمر يحتاج أن ينتقي المتخصصون في مجال التوعية البيئية الخيارات المبتكرة، التي تساعد التلاميذ على الاستنارة، بدلًا من تجاهُل التكنولوجيا بشكل كامل”.
يرى ماكولاي -في تصريحات لـ”للعلم”- أن “الانقطاع المتنامي لدى التلاميذ عن الخروج للطبيعة يحتِّم وجود أدوات جديدة لملء هذا الفراغ”.
“هناك ضرورة ملحَّة لإعادة هيكلة المؤسسات التعليمية، بحيث يصبح الخروج للطبيعة بالشكل التقليدي، فضلاً عن تفعيل دور الرحلات الافتراضية بما يعزِّز التعلم البيئي؛ فنحن الجيل الأول من المربين الذين يعدون البديل الرقمي خيارًا حقيقيًّا، وهذه القدرة على الاستبدال لن تزيد إلا مع ازدياد الميزانيات المخصصة للتكنولوجيات الناشئة، وزيادة إمكانية الوصول إليها”، وفق ماكولاي.
ويضيف: سبق أن كشفت دراسة أجرتها كريستن كامبل -أستاذ دراسات الطفولة المبكرة بجامعة فلوريدا- أن الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية، وحدها، ينفقون تقريبًا 7 ساعات يوميًّا أمام وسائل الإعلام الإلكترونية، مقابل 4 إلى 7 دقائق فقط من اللعب في الهواء الطلق، مشددًا على أنه “لعل الانفصال المتزايد بين الشباب والطبيعة يضاعف من حتمية خلق أدوات جديدة للتعلُّم والاقتراب منها”.
رحلات جوجل
يبرهن ماكولاي على كلامه، مشيرًا إلى أن “استطلاعًا بريطانيًّا للرأي انتهى إلى أن واحدًا فقط من كل ثلاثة أطفال ممن شاركوا في الاستطلاع تمكَّن من تعرُّف طائر العقعق (طائر من فصيلة الغرابيات ذو ذيل طويل)، في مقابل 9 من أصل 10 تمكنوا من معرفة كائنات الداليك (وهي كائنات عدوانية من خارج كوكب الأرض تظهر بشكل رئيسي في مسلسل الخيال العلمي البريطاني Doctor Who).
ووفق ما تشير إليه الدراسة، فإن بيئات التعلُّم الافتراضية ثلاثية الأبعاد تضع العالم بعناصره البيئية المتفردة بين يدي التلميذ؛ إذ يمكنه دراسة حصة العلوم بجوار الحاجز المرجاني في الطرف الآخر من المعمورة ببنما، أو التنزُّه على ضفاف نهر الأمازون بالبرازيل، أو تأمُّل تكاثر الدب القطبي في صقيع القارة القطبية الجنوبية، كل تلك الرحلات بتكلفة زهيدة نسبيًّا؛ إذ تبلغ تكلفة تجهيز فصل يضم 30 تلميذًا بتطبيق جوجل إكسبيدشن (برنامج يمكنك من التجول في أماكن كثيرة حول العالم عن طريق ما يُعرف بخوذة الواقع الافتراضي) 9500 دولار وفقًا لموقع “جوجل فور إديوكيشن”؛ ومن خلال هذه النزهات البيئية الإلكترونية يزداد تفاعل الطفل ووعيه بأهمية التنوع الحيوي والتوازن البيئي، لا سيما وأن هذه الوسائل الجديدة تبدو مثيرةً للاهتمام بالنسبة له.
لا تُعَدُّ دراسة ماكولاي الأولى من نوعها، فقد توصل فريق بحثي آخر لنتائج تتفق مع ما جاءت به أطروحته؛ إذ صمم باحثون بجامعة هارفارد برنامجًا تجريبيًّا يُعرَف بـ”EcoMOBILE” جمعوا فيه بين استخدام الواقع المعزَّز والخروج بالتلاميذ في الهواء الطلق من أجل تحقيق هدفين، الأول: معرفة كيفية تأثير التكنولوجيا على التعلُّم، والثاني: مساعدة الطلاب على ربط مفاهيم العلوم المجردة المستفادة في الفصول الدراسية مع تجارب في العالم الحقيقي.
ينقل البرنامج عن إيمي كامارينن -الباحثة المتخصصة في مجال دراسة المياه، وإحدى المشاركات فيه- قولها: “إن البرنامج ساعد في ظهور البصمة الشخصية لكل تلميذ؛ إذ يربط البرنامج التلاميذ بالطبيعة بدرجات مختلفة عن الأشكال الأخرى، فيجعلهم يشعرون بشكل ما بالمسؤولية عن عملهم، ويجعل من دراسة العلوم عملية إبداعية؛ فهم يستمتعون بالدراسة، ويدركون أن البيئة في الواقع هي مجال تحليلي، وهو ما دفع التلاميذ لطرح أسئلة أكثر عمقًا وذكاءً”.
من جهتها، تقول نهال لطفي -أستاذ علم النفس التربوي المساعد بكلية التربية، جامعة قناة السويس- لـ”للعلم”: “إن استخدام التكنولوجيا يساعد على توصيل المعلومة بشكل جيد، كأن نوضح للتلاميذ مثلاً كيف يمكن أن تختفي الغابات أو أن تجف بحيرات أو تنقرض حيوانات ما في جزء بعيد من العالم والآثار الناجمة عن ذلك، وهو ما يشكل توجهات إيجابية إزاء الطبيعة، ويجعل احترام البيئة جزءًا أساسيًّا من البنية الذهنية والمعرفية لهم”.
بدورها، تفضل رحاب النمرسي -خبيرة المونتيسوري (منهج تعليمي يعتمد على فلسفة تربوية تأخذ بمبدأ أن كل طفل يحمل في داخله الشخص الذي سيكون عليه في المستقبل، ويعتمد أساسًا على استنفار الحواس في عملية التعلم)- أن يكون استخدام هذه التقنيات في مراحل الطفولة المتوسطة، فيما يفضَّل في المراحل الأولى للطفولة الخروج إلى الطبيعة وملامستها؛ لأن هذه المرحلة تشهد التكوين الحسي للطفل الذي لا يجب أن يعتمد على ما هو اصطناعي، وفق وصفها.
توجهات إيجابية
وإذا كانت هذه التطبيقات تفتح بابًا هائلًا لتطويعها واستخدامها استخدامًا مبتكرًا في التعلم، مثل علم التشريح ودراسة خبايا جسم الإنسان وأسرار الفلك وعلم الجيولوجيا والجغرافيا، فإنها دون شك تستطيع أن تخلق توجهات إيجابية من الطلبة إزاء دراسة بعض العلوم التي قد يرونها معقدة، على حد تعبير نبيل الزهار -أستاذ علم النفس التعليمي، والعميد السابق لكلية التربية بجامعة الإسماعيلية- لـ”للعلم”.
لا بديل للرحلات الميدانية، لكن بالرغم من ذلك، لا تخلو تلك التجربة من العيوب، إذ ترى “لطفي” أن رحلات الواقع المعزَّز أو الاصطناعي لا يجب أن تكون وسيلةً للاستغناء عن الرحلات الميدانية الحقيقية.
تقول: أثبتت دراسات أُجريت في اليابان في مطلع الثمانينيات أن التنزُّه في الغابات قد يحسِّن من الوظائف الحيوية للجسم؛ لأن بعض الأشجار تفرز أنواعًا من الزيوت تعمل على تحسين أداء الجهاز المناعي، وهو الذي دفع اليابان لإقامة نوادي الاستحمام في الغابات من أجل زيادة التواصل بين البشر والطبيعة، وبالتالي تحسين نوعية الحياة.
يشترك ماكولاي مع لطفي في الرأي، موضحًا أن “البحوث التربوية تؤكد أن للتعلُّم التجريبي الميداني قيمة خاصة في العلوم”.
آثار جانبية
من ناحية أخرى، أثبت بحث ماكولاي أن هناك بعض الفروق التي جرى قياسها -بين الرحلات الميدانية الحقيقية والافتراضية للطبيعة- والتي قد تنبع من حقيقة أن التعلم في الحياة الحية عادةً ما يحدث مع البشر، وأن التعلم مع نموذج “المعلم القدوة” وكذلك الأقران يمكن أن يعزِّز إلى حد كبير من تأثير التعليم البيئي، في حين يمكن أن تكون هذه الفرص مفقودة في تجارب الطبيعة الافتراضية.
كما قد تترتب على التمادي في استخدام الطبيعة الرقمية آثار جانبية أخرى؛ إذ مع الوقت قد يشعر الطفل أن “الطبيعة الحقيقية مملة”؛ فعلى سبيل المثال، فإن الحيتان لا تتركنا نعانقها بسلام في أثناء الغوص كما هو الحال في كثير من ألعاب الواقع الافتراضي. وقد تعزز هذه الألعاب فكرة أن البشر مختلفون ومنفصلون تمامًا عن الطبيعة، وأكثر من ذلك فقد تعمل على تسطيح الهيكل المعقد للطبيعة ووظيفتها.