هل الطبيعة معدَّة مسبقًا؟ يقترح فيزيائيون اختبار الجاذبية الكمية باستخدام تقنيات متاحة معمليًّا، فهل ستنجح تجربتهم؟

هل الطبيعة مجموعة مشاهد بعضها بجانب بعض، تتحرك بسرعة كبيرة كفيلم الكارتون ليصوَّر لحواسنا أنها متصلة ومستمرة! بمعنى آخر، هل الطبيعة مُعدَّة مسبقًا؟

من خلال نظريات العلم الحديث، قد نتمكن من فهم طبيعة الوجود ومن ثَمَّ جوهر وجودنا.

العناصر الأساسية الأربعة

حين نسترجع أفكار الإنسان عن الطبيعة منذ القدم نجد أن المفكرين القدامى حين نظروا للطبيعة وجدوا أن كل شيء فيها متصل بالآخر في تناغم بديع، ويحكم كل أحداثها دائمًا السبب والنتيجة.

ومركَّبات الطبيعة مهما تعقدت فهي في النهاية مكونة من عناصر أساسية، عرفها فلاسفة اليونان -وعلى رأسهم أرسطو- بالعناصر الأساسية الأربعة: الأرض والهواء والنار والماء.

ظلت تلك الفكرة تسيطر على المفكرين قرابة ألفي عام، حتى تأسست منهجية البحث العلمي على يد جاليليو ونيوتن.

وعلى الرغم من أن نظرية العناصر الأربعة ثبت عدم دقتها كأساس للطبيعة، إلا أنها تجد توافقًا غريبًا مع حالات المادة الأربع التي اكتشفها العلماء، وهي الحالة الصلبة (الأرض)، والحالة السائلة (الماء)، والحالة الغازية (الهواء)، وحالة البلازما (النار).

التصور التوحيدي للطبيعة

إن المادة في العلم الحديث هي أي شيء له كتلة وحجم، وتتألف من ذرات في بنيتها الأساسية، وطبيعة هذه الذرات هي التي تحدد طبيعة وحالة المادة. فإذا كانت الذرات مرتبطةً بشدة بعضها ببعض، ما لا يسمح لها بالحركة، فإنها تكون حالة صلبة، وإذا كانت الذرات قريبةً بعضها من بعض ولها حرية الحركة حول بعضها فإنها تكون حالة سائلة، تسمح للسائل أن يأخذ شكل الوعاء الذي يحتويه وهكذا.

من هنا ندرك أن حالات المادة المختلفة -سواء كانت صلبة أو سائلة أو غازية أو بلازما- ما هي إلا تمثيلات مختلفة للشيء ذاته من الذرات.

إذًا الطبيعة مكوِّنها الأساسي ذرات، وتلك الذرات عبارة عن نواة موجبة الشحنة؛ لأنها تحتوي على جسيمات موجبة الشحنة تسمى البروتونات، وكذلك جسيمات متعادلة تسمى نيترونات، وتدور حول النواة جسيمات سالبة الشحنة تسمى إلكترونات. 

كل عناصر الطبيعة المختلفة، كالحديد والنحاس والماء والأكسجين، ما هي إلا ذرات، تختلف فقط في عدد الجسيمات التي تحتويها من بروتونات ونيترونات.

هذا التصور التوحيدي للطبيعة الذي يمثل الطبيعة ككيان كبير، وحدة وجوده واحدة، وهي الذرة.

دفع العلماء للتساؤل: هل الجسيمات المختلفة التي تكوِّن الذرات هي أيضًا تمثيل لجسيمات أولية يتكون منها الوجود المادي؟

وبالفعل توصل العلماء عن طريق التجربة إلى أن المادة ما هي إلا جسيمات أولية تسمى الكواركات والليبتونات، والتي تشكل اللبنة الأساسية لهذا الوجود! وتتفاعل تلك الجسيمات الأولية فيما بينها عن طريق أربع قوى أساسية هي الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية القوية والقوى النووية الضعيفة.

قوانين فيزياء الكم

ولكن هل تتصرف تلك الجسيمات الأولية كتصرف الكتل التي تتكون منها على المستوى الكبير. أو السؤال بصيغة أخرى: هل تتصرف الطبيعة كما نراها بحواسنا الخمسة؟ أم أن تصرفها ينافي منطق الحواس؟

عندما أدركنا الطبيعة بحواسنا وجدنا أنه من المستحيل مثلًا أن تسلك أكثر من مسار في آنٍ واحد في الطبيعة، أما على مستوى الجسيمات الأولية فيمكن للإلكترون أن يفعلها! على مستوى الحواس لا يمكنك أن تكسر حائطًا يحتاج كسره إلى قدرة 10 الآف حصان في حين تكون قدرتك 50 حصانًا! أما الإلكترون فيستطيع عبور ذلك الحائط بسلام رغم قدرته الضعيفة، وتم إثبات ذلك تجريبيًّا.

الحقيقة التي أدركناها أن عالم الجسيمات يخضع لقوانين تختلف تمامًا عن عالمنا. هو عالم تحكمه قوانين فيزياء الكم التي تنافي منطق الحواس، والتي بُنيت على أساسها كل التكنولوجيا التي نشهدها اليوم.

فالطبيعة لا تتصرف بالضرورة وفقًا للمنطق الذي تربيت أنت عليه، ولعلي هنا أستشهد بمقولة للأديب البريطاني برناردشو حين قال: “سامحه؛ فإنه يعتقد أن عادات قبيلته هي قوانين الطبيعة”.

كذلك تصدمنا فيزياء الكم في منطق حواسنا بالنسبة لإدراك الطبيعة وقياسها، إذ إننا ندرك أن طاقتنا متصلة، فمثلًا عندما تتحرك من بيتك إلى عملك مسموح لك في أثناء حركتك أن تكون طاقتك مثلًا 30 جول أو 35 جول أو أي قيمة بينهما، ليس هناك قيمة محرمة عليك.

ولكن في العالم الكمي، الإلكترون مسموح له بطاقات محددة كمية، مثلًا 1 إلكترون فولت و-2 إلكترون فولت، في حين أن كل قيم الطاقة بين تلك القيمتين محرمة على الإلكترون.

تلك الطاقات المحدِّدة للجسيمات الكمية تم التأكد من وجودها من خلال التجارب على المستوى الذري وما دون الذرة، ولكن بقي تساؤل للعلماء: ماذا عن الزمان والمكان؟ هل هما متصلان ومستمران كما تُظهِر الحواس أم يخضعان لفيزياء الكم؟

محاولة للإثبات التجريبي

وقد شاركتُ شخصيًّا مع فريق عمل من عدة دول -كندا والهند وغيرها- في ورقة بحثية نُشرت في مجلة دولية مرموقة هي: نيوكلر فيزيكز بي nuclear physics B، اقترحنا من خلالها إطارًا تجريبيًّا عن طريقه يتم اختبار هل المكان متقطع أم متصل، كخطوة لاثبات نظرية الجاذبية الكمية تجريبيًّا.

في هذا البحث نقترح إمكانية اختبار وجود القيمة الصغرى في المكان عن طريق تجربة تستخدم التقنية المتقدمة في علم الليزر، وذلك بتكبير آثار عدم اتصال المكان على قوانين النبضات البصرية عالية الكثافة، والذي يسبب حيودًا تم حساب قيمته في البحث.

أحد الأسباب التي تجعل اختبار الجاذبية الكمية صعبًا جدًّا هو أن آثارها تظهر فقط في مستويات عالية الطاقة جدًّا وما يقابلها من مستويات متناهية في الصغر من حيث الطول.

هذه المقاييس المتطرفة، التي هي قريبة جدًّا من مقياس بلانك (قياس آثار ما تسمى بعدم التبادلية noncommutativity)، هي أرقام ترتفع رياضيًّا لرتبة ما يقرب من 15، أي أبعد من تلك التي يمكن الوصول إليها من قِبَل مصادم الطاقة الكبير (LHC)، حيث تجرى أعلى تجربة من حيث الطاقة في العالم حتى الآن.

وبغية التصدي لهذه التحديات، اتخذ الفيزيائيون نهجًا مختلفًا تمامًا للوصول إلى طاقات وأطوال مقياس بلانك.

يقول دافود مومني -أحد باحثي الدراسة، والباحث في قسم الفيزياء بكلية العلوم، جامعة السلطان قابوس، في عمان-: “لكي نختبر فيزياء الجاذبية الكمية، نحتاج إلى طاقة كبيرة للغاية، وهذا ليس ممكنًا بالتكنولوجيا الحالية”، مضيفًا: لذلك يطرح بحثنا إمكانية لاختبارها دون الحاجة لتوليد طاقة كبيرة، وذلك بمحاولة اختبار عدم تبادلية الزمكان.

ويستطرد بقوله: معظم نظريات الجاذبية الكمية تقريبًا تقترح عدم تبادلية الزمكان، وهي الفرضية التي تحل مشكلات عدة في علوم الكونيات والمتفردات الكونية، ويأتي بحثنا هنا ليدرك أهمية ذلك وكيفية اختباره بوسائل غير مكلفة نسبيًّا.

العديد من النظريات المقترحة من الجاذبية الكمية -وضمنها الجاذبية الحلقية loop quantum gravityونظرية الأوتار string theory– هي نظريات لا تبادلية، حيث هندسة الزمكان غير تبادلية، وفق الدراسة.
تقول الباحثة أنا بهات -من قسم هندسة المعادن والمواد، بالمعهد الوطني للتكنولوجيا بالهند، وأحد باحثي الدراسة-: “التصميم التجريبي المقترح في البحث يهدف لاختبار الظواهر الفيزيائية المصاحبة لعدم تبادلية الزمكان”، مضيفةً أنه جرى تصميم زوج من أجهزة إصدار الذبذبات الميكروميكانيكية، مع لوحة زنبركية حساسة للغاية، يمكنها رصد أي إشارة لتغير قد يحدث في الكتلة أو الحركة، كما أنها شديدة الحساسية للضوء.

وتوضح بهات أن أهمية هذا التصميم تكمن في التقليل من الوقت المستهلك في استخدام عدة مركبات تجريبية، بما قد يؤثر على كفاءة النتائج وزيادة التشويش حولها، مشددة على تطلُّع فريقها العلمي إلى نجاح هذا التصميم في قياس المؤثرات الكمية التى يمكن إعدادها في المعمل، ما يعطيهم الأمل في تطوير أنظمة كهروضوئية يمكنها اختبار تلك التأثيرات.

ويقول مير فيظل -الباحث في قسم الفيزياء وعلم الفلك، جامعة ليثبريدج، في كندا، وأحد باحثي الدراسة أيضًا-: “نتوقع أن توصِّف الجاذبية الكمية درجات الحرية الأساسية للطبيعة، لذلك فإن فهم هندسة المكان عند مستويات الطاقة متناهية الصغر ربما يخبرنا بذلك. فمن المهم اختبار صحة فكرة عدم تبادلية الزمكان”.

اعرف كينونتك

ولكن لماذا يريد العلماء اختبار ما إذا كان الزمان والمكان متقطعين أم متصلين.

الدافع وراء هذا هو أن القوى الأساسية في الطبيعة التي تحدثنا عنها في بداية المقال -كالكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة والنووية القوية- تخضع بشكل عملي ونظري لفيزياء الكم، فمثلًا نجد أن الكهرومغناطيسية مكوَّنة من كمات ضوئية تسمى الفوتونات، تخضع بالكامل لقوانين فيزياء الكم، شأنها شأن الإلكترونات.

ولكن تختلف الجاذبية عن هذه القوى في جوهرها كقوى أساسية، إذ اعتبرها أينشتين في النسبية العامة مجرد انحناء في الزمان والمكان، ولذلك إذا أردنا معاملة الجاذبية بفيزياء الكم فعلينا معاملة الزمان والمكان أنفسهم بفيزياء الكم. تسمى هذه المحاولات بالجاذبية الكمية.

وهنا نأتي إلى منعرج حاسم. ماذا يعني أن المكان والزمان غير متصلين ومتقطعين. هل الطبيعة مجرد مشاهد كمشاهد الكارتون وُضع بعضها بجانب بعض مع وجود فراغات بينها لا تحتوي على شيء؟ أي شيء؟ لماذا لا ندرك تلك الفراغات.. الإجابة بسيطة: لأنها أصغر بكثير من أن ندركها بحواسنا، ولكن ربما بتقدُّم تكنولوجيا القياس الميكروسكوبي يمكننا ذلك. 

هل هذا يعني أن الطبيعة ككل تحتوي على الوجود وعدم الوجود في آن واحد. الإجابة ربما تكون نعم، إذا أثبتنا أن الزمان والمكان متقطعان وغير متصلين.

كل محاولات علماء الفيزياء النظرية عبر التاريخ الحديث لصياغة الجاذبية الكمية تخلص إلى أن الزمان والمكان متقطعان وغير متصلين.

 ولكن إذا توقفنا لنسأل أنفسنا: مَن نحن؟ أبسط رد سيكون: نحن مكوَّنون من مادة ووعي، يسبحان في الزمان والمكان. بالنسبة للمادة هل تخضع لفيزياء الكم على مستواها الأساسي؟ .. نعم.

وهل الزمان والمكان الذي نسبح فيه أيضًا متقطع؟ الإجابة إذا كانت نعم، فهذا يعني أن كينونتنا تتراوح بين الوجود وعدم الوجود، ولكن حواسنا الخمسة تجعلنا حبيسي وهم أن الطبيعة متصلة، وأن الفيلم أو الحياة التي نعيشها متصلة، وهي في الواقع مشاهد مرصوصة بجانب بعضها! تأمل قليلًا في هذا لتعرف كينونتك!

References:
1- Probing noncommutative theories with quantum optical experiments

Sanjib Dey, Anha Bhat, Davood Momeni, Mir Faizal, Ahmed Farag Ali, Tarun Kumar Dey, Atikur Rehman. Oct 11, 2017. 10 pp. Published in Nucl.Phys. B924 (2017) 578-587

2- Quantum Gravity: A Brief History of Ideas and Some Prospects. Steven Carlip, Dah-Wei Chiou, Wei-Tou Ni, Richard Woodard. Int. J. Mod. Phys. D, Vol. 24, No. 11 (2015) 1530028.

عن الكتّاب