ملاحقة السرطان في أجواء بركانية

فريق علمي من جامعة آلتو الفنلندية، يبتكر مواد نانوية مضادة للسرطان من خلال محاكاة ظروف التفاعلات الكيميائية للبراكين تحت الماء

 
ملاحقة السرطان في أجواء بركانية
شكل توضيحي يظهر عملية إنتاج جسيمات من فوق أكسيد الزنك النانونية متماثلة التوزيع الحجمي Credit: m.Elbahri et al/n comms 2017

على الرغم من أن التاريخ الطبيعي للمواد النانوية بدأ مع اللحظة الأولى لتشكُّل الكون، وتحديدًا مع بدء الدخول في مرحلة البرودة التي تلت الانفجار الأعظم، إلا أن القصة العلمية لهذه المواد بدأت بعد ذلك بأمد بعيد، وتحديدًا مع اجتماع الجمعية الفيزيائية الأمريكية في سنة 1959.

أمام حشد غفير من علماء الجمعية، أعلن ريتشارد فاينمان -الحائز جائزة نوبل في الفيزياء– في محاضرته الشهيرة «هنالك مساحة واسعة في الأسفل»، عن نبوءته بما يُعرف الآن بالعالم النانوي للمواد متناهية الصغر، عندما قال قولته الشهيرة: “لا يخامرني أدنى شك في أننا سنحصل على طيف واسع جدًّا من الخصائص الممكنة للمواد إذا ما أتيحت لنا بعض إمكانية التحكم في ترتيب الأشياء على مقياس صغير”.

جاء الدعم النظري لتأملات فاينمان سريعًا، إذ طور ر.كوبو من جامعة طوكيو اليابانية، في أوائل الستينيات، نموذجًا يتنبأ بالسلوك الميكانيكي الكمومي لتجمعات صغيرة جدًّا من الذرات داخل حجومها المحدودة.

وسرعان ما أصبحت النانو أكثر الفروع نشاطًا في العلم والتقانة، وأضحى الباحثون الذين كانوا يلقبون أنفسهم في يوم من الأيام بعلماء المواد أو كيميائيين عضويين، يُعرفون بتقَنيي النانو.

والنانومتر يساوي جزءًا من بليون من المتر، ويعادل عرض عشر ذرات من الهيدروجين موضوعةً جنبًا إلى جنب، وجزءًا من ألف من طول بكتيريا نموذجية، وجزءًا من مليون من حجم رأس دبوس.

ويشمل هذا الحقل مجالات متنوعة لها علاقة بإيجاد أشياء متناهية في الصغر، ذات تطبيقات حيوية وأحيانًا شديدة الأهمية، وهو يقتبس من فيزياء المواد المكثفة condensedmatter physics، والهندسة والبيولوجيا الجزيئية وجزء كبير من الكيمياء، إلا أن بحوث تصنيع الشرائح الإلكترونية والطب الحيوي ومكافحة السرطان تحظى بالأسبقية.

محاكاة البراكين

أصبح استكشاف تأثير الجسيمات النانوية (على سبيل المثال، تلك المصنوعة من المعادن وأكاسيدها، وهلم جرًّا) على بقاء الخلايا الحية في التطبيقات العلاجية حقلًا بحثيًّا متطورًا للغاية.

ويجري الآن استكشاف الطب النانوي، على نطاق واسع، لعلاج الأمراض المعقدة، وأبرزها السرطان. في هذا الصدد، نجح باحثون في جامعة آلتو الفنلندية في تطوير مواد نانوية مضادة للسرطان عن طريق محاكاة ظروف الكيمياء الديناميكية التي يسببها وقوع بركان في أعماق المحيطات. مكنت الطريقة الجديدة الباحثين من صنع تجمعات نانوية من مادة بيروكسيد الزنك zinc peroxide دون استخدام أية مواد كيميائية ضارة، فيما يُعرف بالتخليق الأخضر green synthesis.  

وقع اختيار الباحثين على جسيمات بيروكسيد الزنك النانوية؛ لقدرتها على علاج السرطان وأمراض أخرى تتسم بالتعقيد. تسهم التقنية الجديدة في إنتاج جسيمات بيروكسيد الزنك النانوية بحجم محدد وبطريقة سهلة وقابلة للتطوير عبر هذه العملية الديناميكية التي لم يجر تقديمها من قبل، وفق الدراسة المنشورة في دورية نيتشر كومينكيشن مايو الماضي.

فبالقرب من بوابات البراكين في أعماق المحيطات، أو تحت ظروف خاصة في المختبر، يمكن أن تغطي طبقة بخار مساحة كبيرة دون أن ترتفع بعيدًا عن سطح ساخن، بينما تتصرف جزيئات السائل بطريقة استثنائية، إذ تبدأ في التحرك والرقص على ذلك السطح بدلًا من تبخرها بشكل سريع كما هو متوقع، وهو ما يُعرف بتأثير ليدنفروست، الذي عمل باحثو الدراسة على محاكاته من أجل الوصول للحجم المطلوب للجزيئات.

يقول مادي البحري -الأستاذ بقسم الكيمياء وعلوم المواد في جامعة آلتو في فنلندا، وأحد باحثي الدراسة-: “في الواقع، هذه ظاهرة مألوفة لنا كباحثين، ويمكن ملاحظتها في أوقات كثيرة في أثناء عملية الطهي في المطبخ“.

ويضيف: “قبل بضع سنوات، لاحظت هذه الظاهرة في مطبخي، وتأملت في أصل حدوثها وآليته، وآنذاك تساءلت عما إذا كان من الممكن توظيفها في تخليق مواد نانوية”، ويستطرد: واستنادًا إلى تلك المعرفة، قدمت مفهومًا جديدًا عما يمكن أن نطلق عليه “ليدنفروست كيمياء النانو”، وهو ما يعني توليف الجسيمات النانوية باستخدام تأثير ليدنفروست.

يقول البحري: “نحن نبرهن من خلال بحثنا هذا على أن الكيمياء الحيوية لهذه الظاهرة التي تحدث في منطقة محددة، فائقة الحرارة تحت الماء، أداة جديدة لتخليق تجمعات نانوية”.

وتوفر الطبيعة الهيدروديناميكية لهذه الظاهرة القدرة على السيطرة على حركة هذه التجمعات، بحيث تتم في اتجاه المنطقة الأكثر برودة، مما يؤدي لنمو “تجمعات نانوية أحادية مصممة خصيصًى من حيث الحجم للوفاء بغرض البحث”.

التخليق الأخضر

استخدم الفريق البحثي الماء كمذيب في أثناء عملية تخليق الجزيئات النانوية، على اعتباره أفضل مذيب كيميائي صديق للبيئة، وفق رمزي عبد العزيز-باحث دكتوراة بجامعة ألتو، وأحد الباحثين بالدراسة- والذي يؤكد: “لا نستخدم في مختبرنا أية مذيبات سامة من تلك المذيبات التي تُستخدَم عادةً في عمليات تخليق الجزيئات النانوية وتحديد أحجامها وأشكالها”.

ويضيف: نجحنا في تكوين الجزيئات اللازمة لذلك بطريقة صديقة للبيئة، بعد أن استوحينا فكرتها مما يحدث عند فوهات البراكين المائية، موضحًا أنه في الكيمياء الحيوية تتصرف البيروكسيدات (ومنها بيروكسيد الزنك) كمصادر إمداد للأكسجين، وبالتالي يمكن توظيفها في علاج مجموعة واسعة من الأمراض الناجمة عن عمليات الاستقلاب اللاهوائية كالسرطان؛ إذ يعزز غياب الأكسجين نمو الخلايا السرطانية وتطورها.

يقول البحري: “يؤثر ضبط حجم الجزيئات المنتَجة تأثيرًا مباشرًا على عملية إطلاق الأكسجين، إذ يؤدي الحجم دورًا مهمًّا في هذه العملية العلاجية، ولضمان حدوث تأثير موحد، يجب أن يكون لهذه الجسيمات حجمٌ متساوٍ”.

وفي الطبيعة، تُعَد الكيمياء الديناميكية إطارًا فريدًا من نوعه، يوفر حالة من التدفق المستمر في اتجاه عمليات تخليق كيميائي للمواد منظم ذاتيًّا. كما تُعَد الجسيمات الرائعة التي تشكلها عمليات الترسيب والفوران الخاطفة والسريعة للمحاليل فوق المشبعة عند فوهات البراكين في قاع البحر مثالًا لمنتجات الكيمياء الديناميكية المتنوعة تحت الماء.

ومع ذلك، فإن التحدي القائم ليس تصميم طريقة قادرة على توليف مستدام للجسيمات النانوية فحسب، بل أيضًا ضبط حجمها لتأدية الوظائف المطلوبة في الطب الحيوي، على سبيل المثال في علاج السرطان.

يشدد البحري على أن الظروف التي تقدمها كيميا ليدنفروست تحت الماء تستطيع تلبية هذه الاحتياجات، من حيث الحجم المطلوب وكونها صديقة للبيئة أيضًا. فالماء هو العنصر الرئيسي في العمليات الديناميكية في الطبيعة، وهو أحد المذيبات الصديقة للبيئة.

وبالتالي، فإن تفعيل المياه لتكون بمنزلة مفاعل ديناميكي صديق للبيئة لتصنيع الجسيمات النانوية المصممة، وفق حجم محدد، سيفتح طريقًا جديدةً للتوليف المستدام للمواد التي يمكن إنتاجها لأغراض وظيفية كالعلاج مثلًا.

من جانبه، يشدد عبد العزيز  على أن محاكاة هذه الظاهرة الطبيعية مكَّن الباحثين من إنتاج جسيمات من فوق أكسيد الزنك النانونية متماثلة التوزيع الحجمي، بما يعزز من فرص استخدامها للقضاء على الخلايا السرطانية دون التأثير على الخلايا السليمة.

وتتكون الجزيئات النانوية المطلوبة في شكل تجمعات تتجه نحو الأماكن الأبرد على السطح الساخن، بطريقة طبيعية وصديقة للبيئة، ما يمكِّن من الاستفادة منها في عمليات التوجيه نحو الخلايا السرطانية دون غيرها.

تأثير السُّمِّيَّة

أجرى الفريق البحثي اختبارًا للجزيئات النانوية المنتجة من حيث تأثير السُّمِّيَّة على عدد من الخلايا، على اختلاف أنواعها، السرطانية والعادية، لإثبات قابليتها للتطبيق كعلاج نانوي للسرطان. ووفقًا للدراسة، فإن هذه الجسيمات لديها القدرة على قتل الخلايا السرطانية من قبل آليات موت الخلايا المبرمج وغير المبرمج. 

ويوضح البحري: “يجب ألا يؤذي العقار المعالج الخلايا السليمة والأرومات الليفية (الخلايا البنائية التي تكوِّن الأدمة)”، مشيرًا إلى أن ضبط الحجم هو ما يُسهم في تدمير خلايا الورم السرطاني انتقائيًّا دون التأثير على الخلايا السليمة، إذ المعتاد في عمليات إنتاج مثل تلك الجسيمات حدوث اختلاف في التوزيع الحجمي، مما يؤثر سلبًا على تطبيقاتها المهمة.

وفيما يتعلق بالخطوات التالية التي يخطط الفريق لاتخاذها، يؤكد البحري ضرورة إجراء مزيد من البحوث؛ للحصول على أفضل استجابة علاجية فيما يتعلق بحجم الجسيمات النانوية وجرعتها.

ويشدد عبد العزيز على أن: “الدراسة تمهد الطريق لإنتاج هذا النوع من الجسيمات النانونية متماثلة التوزيع الحجمي على نطاق واسع”.

اقرأ في الموقع