الإنفلونزا الموسمية تطلق “صافرات الإنذار” مجددًا

إحصائيات عالمية لدراسة حديثة، أُجريت على نطاق واسع، تكشف عن أن المرض يحصد حياة ما بين 291 ألف شخص وحتى 646 ألفًا تقريبًا كل عام؛ من جَرَّاء أمراض الجهاز التنفسي المرتبطة به.

 

أطاحت الإنفلونزا الموسمية seasonal influenza بحيوات نحو 20 مليون شخص حول العالم، في ثلاث هجمات متتالية، أصابت البشر في قارات العالم المختلفة، في فترات زمنية سابقة خلال من القرن العشرين، أغلقت على إثرها الشركات أبوابها، وفُرض العزل الصحي على المباني والمنازل.

ومجددًا، تُظهر لنا الإنفلونزا الموسمية وجهها القبيح، فوفقًا لأحدث الدراسات العلمية في هذا الإطار، كشفت إحصائيات عالمية، أُجريت على نطاق موسع، أن المرض يحصد حياة ما بين 291 ألف شخص وحتى 646 ألفًا تقريبًا كل عام؛ من جَرَّاء أمراض الجهاز التنفسي المرتبطة به.

تتجاوز الأرقام الجديدة تقديرات منظمة الصحة العالمية، التي تفيد أحدث بياناتها أن ما بين نحو 250 ألفًا إلى 500 ألف شخص يلقون حتفهم سنويًّا بسبب الإصابة بالإنفلونزا.

في الدراسة التي أجراها مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها بالولايات المتحدة الأمريكية CDC، بالتعاون مع عدد من المراكز الصحية ووزارات الصحة والجامعات المعنية حول العالم، شارك فريق بحثي دولي من أكثر من 40 بلدًا، وجرى نشر نتائجها بمجلة The Lancet، في ديسمبر الماضي.

ويحدث وباء الإنفلونزا على نحوٍ غير متوقع كل جيل تقريبًا، عندما تتطور إحدى سلالاتها العديدة التي تسري باستمرار في الطيور البرية والمنزلية إلى شكل يصيب الناس بالعدوى؛ إذ ما يلبث هذا الڤيروس أن يتحور أو يبادل ببعض جيناته جينات سلالات ڤيروسات الإنفلونزا التي تصيب البشر، لتنشأ ڤيروسات جديدة شديدة العدوى. وكانت الأوبئة الثلاثة الأخيرة منها قد حدثت في الأعوام 1918 و1957 و1968.

البيانات الوطنية المتعلقة بالوفاة

أجرى باحثو الدراسة مسحًا شمل 33 بلدًا، تشكل 57% من سكان العالم، رصدوا خلالها سجلات الوفيات وبيانات رصد للإنفلونزا الموسمية لمدة أربع سنوات متباعدة، بين أعوام 1999 و2015.

يفسر دانيال إيوليانو -الباحث بـCDC والباحث الرئيسي للدراسة- لـ”للعلم” تجاوُز معدلات الوفيات التي انتهت إليها الدراسة أرقام منظمة الصحة العالمية، بقوله: “شملت الدراسة عددًا أكبر من البلدان”.

أشارت نتائج هذه الدراسة إلى أن هذه الأرقام لا تعكس المدى الحقيقي لتأثير الإنفلونزا الموسمية؛ فهي تحصر فقط معدلات الوفاة من جَرَّاء الأمراض التنفسية المرتبطة بالمرض، إلا أن لها دورًا معروفًا في تفاقُم آثار عدد من الأمراض الأخرى، مثل السكر وأمراض القلب.

ويصعب تحديد الوفيات الناتجة من الإنفلونزا بشكل مباشر؛ نظرًا لكونها قد تحدث من مضاعفات ثانوية، كما لا تؤكد الإصابة في استمارات خروج المرضى أو شهادات الوفاة وقوع هذه الصلة، إلا أن دراسةأمريكية سابقة أكدت وجود علاقة بين تفاقم حالات الدخول إلى المستشفى من جَرَّاء الإصابة بالإنفلونزا -وتحديدًا الإصابة بالفيروس المخلوي التنفسي Respiratory Syncytial Virus– والوفاة.

لذا استعانت الدراسة الأخيرة بالنماذج الإحصائية والبيانات الوطنية المتعلقة بالوفاة والإصابة الفيروسات، ومن ثَم تقدير معدلات الوفيات السنوية المرتبطة بالإنفلونزا والفيروس المخلوي التنفسي، وتصنيفها وفقًا للفئة العمرية ونوع الفيروس، إلا أن التقديرات لم تشمل معدلات الوفيات خلال فترات الأوبئة.

وشددت نتائجها على ضرورة إجراء مزيد من البحوث لفهم العلاقة بين تأثيرات الإنفلونزا المختلفة وعلاقتها بالأمراض الأخرى وآثار التطعيم في الحد من الوفيات؛ تفاديًا لمواجهة وباء أعظم.

نماذج وأشكال عديدة

يوجد نحو أربعة أنواع من فيروسات الإنفلونزا، وهي A وB وC وD، يتسبب النوعان الأوَّلان في انتشار وبائي موسمي في الولايات المتحدة، وعندما يظهر نوع جديد من الفيروس A، يمكن أن يتسبب في حدوث عدوى وبائية.

أما النوع C، فيتسبب في الإصابة بأدوار البرد المعتدلة، ولا يُعتقد أنه يسبِّب أوبئة، ويؤثر النوع D في الأبقار لكنه لا يصيب الإنسان.

إلا أنه يُعتقد أن بعض الفيروسات الحيوانية من النوع A يمكن أن تتسبب في اجتياح وبائي، وتثير قلق مسؤولي الصحة العامة؛ لما تسببت فيه سابقًا من عدوى وبائية خطيرة أدت لوفيات كثيرة.

وتكمن خطورة هذا النوع فيما إذا تمكن من نقل العدوى من شخص إلى آخر بسهولة؛ مسببًا اجتياحًا وبائيًّا. كيف يمكن للإنفلونزا أن تسبب الوفاة؟

يُعَد الأشخاص المصابون بمرض رئوي مزمن أكثر تعرُّضًا للمضاعفات والإصابة بالتهاب رئوي حاد، وفي حين تُعَد التهابات الجيوب الأنفية والأذن أمثلةً على المضاعفات المعروفة للإنفلونزا، يمكن للأخيرة أن تتسبب في الإصابة بالتهاب رئوي، إما وحدها أو بعدوى فيروسية بكتيرية مشتركة.

يوضح إيوليانو أن الإنفلونزا قد تتسبب في الإصابة بالتهابات الأذن والجيوب الأنفية، لكنها أيضًا قد تؤدي إلى مضاعفات خطيرة، مثل التهاب عضلة القلب والعضلات، وفشل أجهزة حيوية بالجسم، مثل الرئة والكلى، فضلًا عن أنها قد تُفاقم المشكلات الصحية المزمنة، مثل أمراض الربو والقلب.

وتشمل المضاعفات الخطيرة الأخرى التهاب عضلة القلب والدماغ والعضلات، وانحلال الأنسجة، وفشل متعدد مثل فشل الجهاز التنفسي والكلوي. ويمكن أن تؤدي عدوى الإنفلونزا إلى استجابة متطرفة للجسم؛ فيتعفن الدم نتيجةً للعدوى الشديدة. كما يمكن أن تؤدي إلى تفاقم المشكلات الصحية المزمنة، مثل الربو وأمراض القلب المزمنة.

وهو ما يؤكده وهدان -مدرس الأمراض إذ يقول إنها تشكل خطرًا لمرضى الصدر والقلب والأفراد الذين يعانون مشكلةً في المناعة، موضحًا أنه من المحتمل أن تنقلب عدوى الإنفلونزا إلى التهاب رئوي، إذ تقل كفاءة الرئة عند مرضى الصدر، وكذلك تقل كفاءة القلب عند الإصابة بالالتهابات، ويتعرض مرضى الكبد والكلى لمخاطر أكبر عند الإصابة بالإنفلونزا، وقد يحدث انخفاض في مستويات سكر الدم.

الفئات الأكثر تضررًا

من المتوقع أن يتعافى معظم المصابين بالإنفلونزا خلال أيام، ولمدة أقل من أسبوعين، لكن قد تتطور المضاعفات لدى آخرين نتيجةً للإصابة، وتشمل عدوى الجهاز التنفسي العلوي (الممرات الأنفية والحلق)، والجهاز التنفسي السفلي (الرئتين).

يمكن أن يصبح أي شخص مريضًا للغاية بسبب الإنفلونزا، إلا أنها تشكل خطرًا إضافيًّا على فئات بعينها، مثل الأطفال الصغار وكبار السن والحوامل، وأصحاب بعض الأمراض المزمنة؛ فهؤلاء يتعرضون لخطر أكبر بحدوث مضاعفات من الإنفلونزا، وربما يتطلب الأمر دخول المستشفى، وقد تؤدي المضاعفات إلى الوفاة.

وتُعَد البلدان الأكثر فقرًا الأكثر تضررًا بين الدول، وفق نتائج الإحصائيات الأخيرة التي تشير إلى أن أعلى معدلات وفيات مرتبطة بالجهاز التنفسي وُجدت بين الأشخاص الذين يعيشون في جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا، تلتها دول شرق المتوسط وجنوب شرق آسيا.

وفقًا لـCDC لا يمكن توضيح السبب الدقيق لكون تلك البلدان الأكثر تأثُّرًا. لكن إيوليانو يطرح علـى “للعلم” بعض الاحتمالات المفسِّرة لهذه النتائج، فيشير إلى أن الهيكل العمري للسكان في البلدان منخفضة الدخل قد يكون مختلفًا تمامًا عنه في البلدان مرتفعة الدخل، ما يفسر ارتفاع معدلات الوفيات في هذه البلدان، كذلك قد يكون نقص الموارد الطبية لمكافحة العدوى في هذه البلدان عاملًا، فالعديد منها يفتقر إلى برامج التطعيم وسياساته، وقد لا تتاح فيها اللقاحات على نطاق واسع.

وفيما يتعلق بفئة المسنين، تُعَد فئة كبار السن الذين تتراوح أعمارهم بين 65 و74 عامًا، الأكثر تضررًا بين الفئات العمرية المختلفة. وتكشف النتائج ازدياد معدل الوفيات بين هذه الفئة على مدار أعوام 1976 وحتى 1999، وهو ما تفسره الدراسة بأنه يعود إلى تضاعُف أعداد المسنين الذين تفوق أعمارهم 85 عامًا، وتواجه هذه الفئة خطرًا أكبر للوفاة من مرض مرتبط بالإنفلونزا بنحو 16 ضعفًا بالمقارنة بالذين تتراوح أعمارهم بين 65 و69 عامًا، ما يشدد على الحاجة إلى تطوير لقاحات واستراتيجيات وقائية أكثر فاعلية لها.

التحصين الحل الأمثل

وفقًا لنتائج الدراسة الأخيرة وتوصيات منظمة الصحة العالمية، تُعَد لقاحات الإنفلونزا أفضل وسيلة وقاية وصل لها العلم حتى الآن، فيمكن للتطعيم السنوي ضد الإنفلونزا الموسمية أن يخفض من خطر الإصابة وانتشارها، وبالأخص الفئات الأكثر عرضة.

يؤكد منتصر أن التطعيم يمكن إعطاؤه بدايةً من عمر 6 أشهر. ومن جانبه، يشيد وهدان بكفاءة التطعيمات وندرة أعراضها الجانبية؛ فالعرَض الوحيد الذي يمكن أن تسببه هو الإصابة بدور إنفلونزا ضعيف، كما يشير إلى أن كفاءة التحصين عالية لكنها ليست كاملة؛ إذ إن فيروس الإنفلونزا يحوي نحو 1200 حمض أميني، ويتحور الفيروس كل سنة، لذلك قد لا تكون كفاءة التطعيم كاملة تمامًا.

وينصح وهدان بتوخي الحذر إذا لاحظ المصاب عدم انخفاض الحرارة، وزرقة الجسم، واحمرار العين، وصعوبة في التنفس؛ كي لا تتفاقم عدوى الإنفلونزا إلى ارتهاب رئوي.

ويوضح لنا ضرورة التفرقة بين البرد العادي والإنفلونزا؛ فالأول تسببه البكتيريا، وينحصر أثره في الصدر، أما الإنفلونزا فتؤثر على الجسم بكامله.

أهمية حشد الجهود

وتعاني كثير من الدول النامية من نقص برامج التحصين من الإنفلونزا، فضلًا عن القدرة على توزيعها، وتبذل منظمة الصحة العالمية جهودًا في نشر التوعية بضرورة التطعيم ضد الإنفلونزا، لا سيما في المناطق الأكثر عرضةً للخطر، كما يعمل مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها بالولايات المتحدة الأمريكية في المتابعة وتوعية الجهات الطبية في أكثر من 60 بلدًا بأنواع السلالات التي يجب تطوير لقاحات لها كل عام.

في هذا الإطار، تلقي نتائج الدراسة الأخيرة الضوءَ على أهمية حشد الجهود وجذب دعم منظمات الصحة العالمية لإدخال برامج تلقيح ضد الإنفلونزا، لا سيما في الدول الفقيرة، وفهم مدى العدوى وأهمية الكشف ووضع استراتيجيات فعالة للوقاية والمكافحة.

كما تكمن أهميتها في أنها تضيف إلى جهود المراقبة العالمية في رصد فيروسات الإنفلونزا والحد من انتشارها، فيما يمكن أن تفيد الإحصائيات التفصيلية لكل بلد صانعي القرار لاتخاذ ما يلزم للحد من الخطر، خاصةً تلك الدول التي لا تمتلك خططًا أو سياسات تطعيم أو وقاية أو تقديرات لمعدلات الوفاة، كما قد تستحوذ الأمراض الأخرى المعدية وغير المعدية على الموارد الصحية المحدودة بتلك البلدان.

من جانبه، ينصح إيوليانو بأن أولى الخطوات التي يمكن لهذه الدول اتخاذها لتقليل حجم الضرر الناجم هي إدراك الفجوة بين عدد السكان والموارد المتاحة، ويمكن للبلاد التي تفتقر إلى برامج مراقبة الإنفلونزا التواصل مع منظمة الصحة العالمية لطلب التوجيه أو المساعدة أو إنشاء نظام في بلدها.

ويشير إلى أن بعض المنظمات الدولية، مثل منظمة غافي، تبحث جدوى إضافة لقاحات الإنفلونزا إلى برامجها لبعض الفئات السكانية الأكثر عرضةً للخطر، وبنجاحها قد تصبح اللقاحات متاحةً لعدد أكبر من البلدان. ويضيف: كذلك تعمل شراكة تقديم لقاح الإنفلونزا (بيفي) مع مصنِّعي اللقاحات منذ عدة سنوات لمساعدة البلدان على إدخال سياسة اللقاحات، وإعطاء اللقاح لبعض الفئات السكانية. ويمكن لوزارات الصحة أن تتواصل مع هذه المنظمات أو الشركاء الآخرين للمساعدة في برامجها.

ويشدد على أنه بدايةً يمكن لهذه البلدان إطلاق برنامج تثقيف صحي، توفر من خلاله مواد تعلیمیة حول الإنفلونزا، ومتى يتعين على الشخص أن يلجأ للرعایة الطبية، ويمكن تنفيذ البرنامج من خلال البرامج المدرسیة، أو في العیادات الصحیة، كذلك قد يساعد أيضًا توفير مزيد من الموارد للمستشفيات، مثل أجهزة التنفس الصناعي والأدوية المضادة للفيروسات.

source<<<<