إنترنت المستقبل: -> سرعة أكبر، تكلفة أقل وإشارات بلا تشويش

تقنية جديدة لنقل البيانات عبر الألياف البصرية بسرعة تزيد على 100 “تيرابايت” في الثانية الواحدة

 
كان “ألكسندر” شابًّا يا
فعًا حين قرر والده اصطحابه لمشاهدة “أعجوبة” لطالما تحدث عنها الناس في ذلك الزمان، وقف الشاب مشدوهًا أمام الابتكار، إنه “الروبوت”، تلك الآلة المصنوعة من حديد على شكل رأس إنسان، والتي اخترعها البارون النمساوي “فولفجانج فون كيمبلين”، وطورها السير البريطاني “تشارلز ويتستون”، بحيث تستطيع التحدُّث ببضع كلمات، ومحاكاة صوت الإنسان.
وقتها، قرر الشاب دراسة الصوت عوضًا عن شغفه بالنباتات، وبعد سنوات، صمم أداة تستطيع نقل الصوت مسافةً تجاوزت 200 متر عبر استخدام الضوء.
كانت تلك الأداة عبارة على حزمة من الألياف، تسير بداخلها الأصوات المُحملة على موجة الضوء، بسرعة تقترب من سرعته، ودون أي خسارة في الإشارة.
عُرفت تلك الحزمة في المستقبل باسم “الألياف البصرية”، فيما ذاع صيت الشاب المعروف باسم “جراهام بيل” المهندس العبقري، الذي يُعَدُّ الأب الشرعي لعلوم تصميم الألياف البصرية، المستخدمة على نطاق واسع الآن، لا لنقل الأصوات فحسب، بل لنقل المعلومات عبر مسافات شاسعة تتجاوز المحيطات والبحار وجميع عقبات الطبيعة.
ورغم استخدام الألياف البصرية على نطاق واسع في حاضرنا، هناك العديد من العقبات التي تحد من استغلالها في جميع انحاء العالم، منها تكلفة تصنيعها المرتفعة، علاوة على التشويش الذى قد يحدث في الإشارة حال تحميل أكثر من إشارة عليها في توقيت واحد.
والآن، وبعد نحو 130 عامًا على ابتكار “جراهام بيل” أول حزمة من الألياف البصرية، وجد علماء من جامعتي “تكساس” و”فيرمونت” الأمريكيتين، طريقةً جديدةً تحسِّن من استهلاك الطاقة المستخدمة في نقل البيانات عبر الألياف البصرية، وتخفض التكلفة، وتسرِّع من عملية نقل البيانات بمقدار 90 ضعفًا، وهو الأمر الذي قد يُسهِم في زيادة سرعة الإنترنت في المستقبل إلى أكثر من 100 تيرابايت في الثانية الواحدة (التيرابايت تساوي ألف جيجابايت، أو مليون ميجابايت، أو مليار كيلوبايت).
الألياف البصرية
وفق دراسة نشرتها مجلة “نيتشر كومينكشينز”، يقول العلماء إنهم تمكنوا من استخدام تقنية قديمة لمعالجة الضوء المار في الألياف البصرية لمحو الضوضاء وتحسين الإشارة، الأمر الذي سيسهم في خفض التكلفة والطاقة في أثناء عملية نقل البيانات.
تُصنَّع الألياف البصرية من الزجاج عالي النقاء، وعلى عكس “الكابلات” الاعتيادية المصنوعة من النحاس، تنقل الألياف الإشارة والبيانات دون حدوث أي فقد؛ إذ تنعكس الإشارات المُحملة على الضوء بسلاسة على الزجاج مهما كان في “الكابل” من انحناءات، أما في حالة الكابلات النحاسية، فتمر البيانات بسبب حركة الإلكترونات عبر الأسلاك، الأمر الذي قد ينجم عنه ضعف في الإشارة أو البيانات، أو حتى فقدهما بشكل كلي.
لا يزيد قطر الألياف البصرية على بضعة ميكرونات (حوالي سُمك شعرة الرأس)، وتُجمع تلك الألياف في حزم، ويجري تبطينها بغلافٍ واقٍ من البلاستيك لحمايتها من عوامل النحر والرطوبة وغيرها من العوامل التي قد تؤدي لتلفها، غير أن معضلةً ظلت تواجه العلماء على مدى العقود الماضية.
فحتى مع الانخفاض المُطَّرد لثمن المتر الواحد من الألياف البصرية، تظل كُلفتها عالية مُقارنة بالمتر الواحد من “الكابلات” النحاسية، كما أنه من الصعب تحميل أكثر من إشارة واحدة على “الكابل” الضوئي الواحد في المرة الواحدة، فكل إشارة تحتاج إلى طريق ممهد داخل “الكابل” الضوئي، كي لا تتداخل مع نظيرتها، ما ينجم عنه تشويش للإشارة أو حتى تلاشيها تمامًا.
منع التشويش
تقول الدراسة إن العلماء تمكنوا من إجراء تجربة جديدة، استخدموا فيها أليافًا ضوئية متعددة، يُمكنها حمل أكثر من إشارة في الآن ذاته، دون حدوث تشويش، أو تأثير بعضها على بعض.
في الوقت الراهن، تستخدم شركات الاتصالات جهازًا يعمل على تحويل الإشارة الضوئية إلى كهرباء عن طريق خلايا فولتوضوئية، مصنوعة من السيليكون، وذلك لإزالة الضوضاء المتراكمة في أثناء سريان الضوء المحمل بالإشارة في وصلات الألياف البصرية؛ إذ تنقِّي تلك الخلايا الإشارة الكهربية من الترددات غير المرغوب فيها، ثم تُعيد تحويلها مرة أخرى إلى ضوء ليزري (موجة كهرومغناطيسية) يسري عبر الألياف وصولًا لوجهته النهائية بسرعة الضوء.
تستلزم تلك العملية أن تدخل الخلية الفولتوضوئية إشارة واحدة فقط، ثم تدخل الثانية بعد أن ينتهي التعامل مع الأولى، وهكذا. ولذلك تحتاج الشركات إلى عدد مهول من الحزم؛ لنقل البيانات والإشارات على التوازي.
مُعدل الطور الذاتي
لكن الدراسة الحديثة توصلت لفكرة جديدة كُلِّيًّا، فعوضًا عن تحويل الإشارة إلى شكل كهربي، عالجها الباحثون باستخدام تقنية الإرسال بتقسيم الطول الموجي، وبدلًا من أن تدخل كل إشارة على حدة من بداية البث إلى نهايته، تلاعبوا في سرعة بث الإشارة عبر استخدام جهاز يُسمى بمُعدِّل الطور الذاتي.
في البداية، عمل الباحثون تعديلًا طفيفًا في شدة الضوء الحامل للإشارة، عبر استخدام مُعدِّل الطور الذاتي“SPM”، بحيث يعمل الجهاز على تعديل معامل انكسار الضوء داخل الألياف البصرية، مما يؤدي إلى تغيُّر في طيف التردد، في أثناء حدوث ذلك التغيير، يتم عزل الضوضاء والإشارات الدخيلة بسهولة، عن طريق تشتيت طاقة الضوضاء في ترددات خارج نطاق تردُّد الإشارة الأصلية المراد إيصالها للطرف الثاني.
يُطلق على تلك العملية اسم “التجميع البصري الكامل”، وهي العملية التي يُمكن أن تؤدي إلى تصحيح تلقائي للضوء الحامل للإشارة، كما تزيد من سرعة عملية نقل البيانات لتصبح أسرع 100 مرة مقارنةً بالطريقة الإلكترونية القديمة.
بعد إزالة الضوضاء، تأتي المرحلة الثانية؛ إذ لا يستطيع نظام التجميع البصري الكامل التعامل مع أكثر من إشارة في الوقت ذاته، شأنه شأن النظام الإلكتروني العادي.
وهنا يأتي دور طريقة الإرسال ذاتها، إذ يقوم المرسل -وهو عبارة عن صمام ثنائي ضوئي ينتج الإشارة ويشفرها- بإنتاج الإشارة بأطوال موجية مختلفة تسير بسرعات مختلفة أيضًا، بحيث تدخل الموجة الأسرع أولاً في الألياف البصرية، التي تكون مُقسمة إلى مجموعة من الأقسام المفصولة بمرشِّحات تؤخر الإشارة أو تقدمها.
وفور أن تقطع الإشارة القسم الأول من الألياف، تدخل إشارة أخرى أقل في السرعة، وهكذا تستمر عملية بث الإشارات مختلفة الطول الموجي والسرعة، عبر تقسيمها في الكابل الضوئي الواحد.
أمر مبهر
يقول مايكل فاسيلوف -الباحث بقسم الهندسة الكهربائية بجامعة تكساس أرلنتجون، والباحث المشارك في الدراسة- لـ”للعلم”: “إننا نستطيع تحميل 16 إشارة مرةً واحدة على كل ليفة بصريَّة، وبالرغم من أن العدد الإجمالي للإشارات التي يُمكن تحميلها لم يُحدد بعد، لكنه لن يقل عن الـ16 إشارة التي نجحنا في التعامل معها داخل المعمل، ما قد يُسهِم في زيادة سرعة الإنترنت في المستقبل إلى أكثر من 100 تيرابايت في الثانية الواحدة”.
ربما يكون الأمر مبهرًا، وفق قول حسام صالح -الخبير في مجال الألياف البصرية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات- مشيرًا إلى أن “الطريقة الجديدة لتقسيم الطول الموجي فعالة وعبقرية؛ فاختلاف سرعة الموجة المحملة على الألياف البصرية تجعل الأمر يبدو وكأن مجموعة من السيارات دخلت إلى نفق مزدحم وتم التحكم بسرعتها لحل الأزمة المرورية، وهي طريقة ثورية، وقد تُغير من مفهوم نقل البيانات في المستقبل”.
لكن “صالح” يعود ويؤكد -في تصريحات لـ”للعلم”- وجود مجموعة من العقبات والمعوقات التي تقف في سبيل تطبيق الطريقة، موضحًا أن “أجهزة تقسيم الطول الموجي غير مُدرجة في جميع أنظمة الاتصالات، وبالتالي سنحتاج إلى إعادة تأهيل البنية التحتية لمنظومة الاتصالات، وبالطبع سيتكلف ذلك الكثير من الأموال، إلا أن العوائد في النهاية ستكون كبيرة”.
ويضيف: “عليك فقط أن تتخيل سرعة إنترنت منزلي بـ100 ضعف السرعة الحالية مع ثبات سعرها، هذا شيء مبهر في كل الأحوال”.