فلزات تُغَيِّر شكلها يمكنها توليد الكهرباء من الحرارة المهدَرة

نموذج أولي لمحرك حرارةمهدَرة يعمل من خلال تدوير مياه ساخنة وباردة عبر مكابسه

 

 
مصانع الغاز الحيوي، مثل ذلك المصنع الموجود في مقاطعة براندنبورغ الألمانية، تولد الكهرباء من الحرارة الناتجة عن تحلل المواد العضوية. يمكن لنوع جديد من المحركات يستخدم مواد تسمى سبائك ذاكرة للشكل أن يساعد مصانع الغاز الحيوي، والعديد من العمليات الصناعية الأخرى، لتكون أكثر كفاءةً في تحويل الحرارة إلى كهرباء. Credit: senorcampesino Getty Images

قبل نصف عقد من الآن، اجتمع عالِم، ومهندس، ورجل أعمال في أحد الأفنية الخلفية في دبلن لإجراء تجربة؛ بتسخين ماء في غلاية شاي كهربائية، ثم سكْب الماء في أنبوب مشطور، وفي الجزء السفلي من نصف الأنبوب، وضعوا سلكًا بطولٍ مُعَيَّن، وقام أحدهم بتثبيت مسطرة بجانب هذا السلك. وعندما تدفق الماء الساخن خلال الأنبوب، فقد السلك عدة سنتيمترات من طوله، وعندما سكبوا ماءً باردًا فوق السلك، عاد إلى طوله الأصلي. أدرك الثلاثة، آنذاك، أنهم ربما يكونون بصدد اكتشاف شيء مهم.

كان السلك الغريب القابل للتشكُّل الذي اختبروه مصنوعًا من مادة يُطْلَق عليها “سبيكة ذاكرة للشكل”. هذه النوعية من الفلزات (وبعض اللافلزات) تتحول من وإلى أشكال محددة سلفًا لدى تعرُّضها لدرجات حرارة معينة، أو للضغط، أو لمحفزات كهربائية.

لقد استُخدمت السبائك الذاكرة للشكل منذ اختراعها قبل 60 عامًا في مجالات مثل الطب الحيوي وهندسة الطيران. ولكن واحدًا من التطبيقات شديدة الجموح هو حصاد الطاقة من الماء الساخن. والآن، يزعم هؤلاء التجريبيون السابقون -مؤسسو شركة تدعى “إكسيرجين”- أنهم قد اخترعوا محركًا يستخدم الأسلاك القابلة للتشكُّل والماء الساخن، المتبقي من العمليات الصناعية، لتوليد الكهرباء.

 

وفقًا لبعض التقديرات، فإن نحو ثلث الطاقة المستخدمة في الصناعة في الولايات المتحدة يُفقد كحرارة.

يقول ريجوبيرتو أدفينكولا، أستاذ علم الجزيئات الضخمة في جامعة كيس ويسترن، وخبير الحرارة المهدرة، والذي لا يمت بصلة لشركة إكسيرجين: “إن كثيرًا من الطاقة يُهدَر في العمليات الصناعية أو في أثناء التبادل الحراري، عندما تُستخدم المياه لتبريد الآلات أو محطات توليد الطاقة؛ فالمياه الساخنة المتولدة كأحد النواتج الفرعية عن التطبيقات الصناعية -بما في ذلك توليد الكهرباء- ليست ساخنةً بما يكفي لإنتاج البخار الذي يمكنه تشغيل محرك لتشغيل مولد”.

تضخ بعض محطات توليد الكهرباء والمصانع المياه الساخنة المُهدَرة إلى محركات ثانوية تحوِّل نسبةً صغيرةً من الطاقة في تلك المياه إلى كهرباء باستخدام عملية تسمى “دورة رانكن العضوية”. إلا أن هذه التكنولوجيا تتطلب موادَّ كيميائية لتوليد الطاقة من الماء الساخن. كما أن بعض أفضل هذه المواد الكيميائية التي تُستخدم لهذ الغرض خطرة أو ضارة بالبيئة، وبالتالي فهي غالبًا ما تكون محظورة أو مقيدة الاستعمال. فضلاً عن أن المواد الكيميائية الأكثر نظافةً لا تستخرج الطاقة من المياه المُهدَرة بالكفاءة نفسها، وهو ما يزيد من التكاليف التشغيلية لهذه المحركات، ما يعني أنها ليست دائمًا فعالة من حيث التكلفة، وفق ما يقوله جوناثان كومي، محاضر نظم الأرض في كلية علوم الأرض والطاقة والبيئة بجامعة ستانفورد، والذي لا يربطه شيء بشركة إكسيرجين.

هنا يأتي دور الأسلاك المتشكلة. تتمتع السبائك الذاكرة للشكل بخصائص جزيئية فريدة، إذ إنها تتحول بين أشكال محددة سلفًا تبعًا لدرجة حرارتها، لذا تكون هذه المواد بمنزلة العامل الأساسي الذي يقوم عليه محرك إكسيرجين الجديد، الذي يستخدم النيتينول nitinol، وهو نسخة معدلة من السبائك الذاكرة للشكل الأصلية. يقول بريستون ماكدوجال -أستاذ الكيمياء بجامعة ولاية تينيسي الوسطى، الذي لا تربطه صلة بشركة إكسيرجين-: “سُمي النيتينول بهذا الاسم لأنه عبارة عن سبيكة من النيكل (Ni) والتيتانيوم (Ti)، أما المقطع NOL، فيشير إلى مختبر الذخائر البحرية [السابق]، حيث اختُرع النيتينول”.

وعلى المستوى الجزيئي، نجد أن النيتينول له ترتيب غير متجانس. يقول “ماكدوجال”: “إن معظم السبائك ليس لها ترتيب داخلي حقيقي على المستوى الجزيئي. فهي تبدو كمحاليل الفلزات، على عكس بلورة الملح أو الماس التي يكون ترتيبها الداخلي منتظمًا، غير أن جزيئات النيتينول تكون أشباه مكعبات منتظمة بينها زوايا 90 درجة. وتبدو تحت المجهر كأنها مجموعة مكدسة من صناديق الأحذية، وبتسخين تلك الجزيئات، فإنها تعيد توجيه نفسها قليلًا، فتصبح الزوايا القائمة حادةً أو منفرجة، وكأن المادة تنكمش. ومع تبريد المادة تستعيد الجزيئات الزوايا القائمة بينها، وتعود السبائك الذاكرة للشكل إلى سابق حجمها وشكلها”.

يستغل “محرك إكسيرجين” سلوك “تغير الشكل” لتحويل حرارة المياه المهدرة إلى كهرباء. ويقول مطوروه إن المحرك يمكن تركيبه في نظام صرف الحرارة المهدرة؛ إذ يمكن تدوير الماء الساخن إلى غرف المكبس الأسطوانية. ويكون كل مكبس موصلًا بسلك نيتينول.

يقول ألان هيلي -الرئيس التنفيذي لشركة إكسيرجين-: “عندما يندفع الماء الساخن إلى داخل غرف المكبس، ينكمش [السلك] بمقدار قليل نسبيًّا، ولكنه يفعل ذلك بقوة كبيرة. ثم يقوم المحرك بتدوير الماء البارد في غرفة المكبس، فيتمدد النيتينول، ويرتد المكبس للخارج مرةً أخرى. على الجانب الآخر من المكبس يوجد سائل لزج يقوم بدفع المكبس المتحرك السائل عبر ناقل هيدروليكي يُدير مولدًا، ما يؤدي إلى توليد الكهرباء”.

يقول أدفينكولا: “إن استخدام خواص هذه المواد لتوليد الطاقة يبدو متعارضًا مع الحدس، ولكنه ليس مميزًا. ومع هذا، اخترع العلماء السبائك الذاكرة للشكل منذ أكثر من نصف قرن، وأدرك المهندسون منذ أمدٍ بعيد ما لهذه المواد من إمكانيات لحصد الطاقة.

في سبعينيات القرن الماضي، طوَّر مهندس ميكانيكي يُدعى ريدجواي بانكس، يعمل في مختبر لورنس بيركلي الوطني، محرك سبائك ذاكرة للشكل؛ ظنًّا منه أنه سيوفر لصناعة الطاقة، وغيرها من القطاعات، المليارات من تكاليف الطاقة.

وحصل بانكس على براءة اختراع للمحرك، لكن المحرك لم يُحدِث ثورةً في قطاع الطاقة كما كان يأمل. فقد كانت التكنولوجيا التي يعمل بها معقدة وتتطلب كثيرًا من المواد الكيميائية، كما كانت الأسلاك المتشكلة تتلف بسرعة كبيرة جدًّا، بصورة جعلتها غير عملية.

لكن الأكاديميين والمهندسين أبقوا الفكرة حيةً في الدوريات والمختبرات حول العالم. وفي عام 2010، دخلت جنرال موتورز في شراكة مع وكالة مشاريع الأبحاث المتطورة للطاقة في وزارة الطاقة الأمريكية لابتكار مجموعة من تقنيات استعادة الحرارة المهدرة، اعتمد بعضها على السبائك الذاكرة للشكل. غير أن شركة جنرال موتورز لا تستخدم حتى الآن سوى السبائك الذاكرة للشكل للتغلُّب على أخطاء ميكانيكية أكثر تعقيدًا في مركباتها، مثل جهاز يسهِّل إغلاق صندوق تخزين السيارة.

لا تدَّعي “إكسيرجين” تحقيق طفرة تكنولوجية هائلة. إذ يقول “هيلي”: “إن الشركة طبقت مقدرتها العقلية طيلة عدة عقود من الأبحاث القائمة لإنشاء أسلاك نيتينول أكثر متانةً، وذلك على الرغم من أن طريقة حبك الصيغة تُعَدُّ سرية”، مضيفًا أن “هذا التقدم كان ضروريًّا؛ لأن السبائك الذاكرة للشكل تتلف بعد مقدار معين من إعادة التشكل، واستبدال الأسلاك على نطاق واسع أمر مزعج ومكلف أيضًا، ما يمثل عقباتٍ كبيرة أمام استعداد المحرك لدخول السوق”.

يقول هيلي: “قبل عامين كان أفضل ما حققه أي شخص مليون دورة. لكننا وصلنا إلى استخدام الأسلاك لأكثر من 10 ملايين دورة”، مُبديًا تطلعه لصناعة الغاز الحيوي لأول عملائه.

ويضيف أنه “لا يوجد نقص في التطبيقات المحتملة. فبعض شركات الأغذية لديها مياه ساخنة مهدرة من تنظيف آلاتها، أو لديها مراكز بيانات تستخدم المياه لتبريد خوادمها”.

ومع ذلك، لم تثبت “إكسيرجين” أهميةَ محركاتها بعدُ. وأي شركة تشتري أحد محركات إكسيرجين، ستحتاج إلى أن تتأكد من أن التكنولوجيا سوف تأتي بمردودها بعد فترة معينة من الزمن، عن طريق الترشيد في فاتورة الكهرباء.

يقول “كومي”: “إن إحدى النقاط المرجعية هي النظر إلى متوسط تكلفة الكهرباء للعملاء الصناعيين. سوف تتنافس إكسيرجين أيضًا مع محركات دورة رانكن العضوية التي تستخدمها الشركات بالفعل لاستعادة الطاقة من الحرارة المهدرة، وهو ما قد تتمتع فيه إكسيرجين بميزة جوهرية عن محركات رانكن”، مضيفًا أن “المحرك الذي يحتوي على كثير من الأجزاء المتحركة والسوائل الداخلية [مثل محرك دورة رانكن العضوي] قد يكون أكثر تكلفةً بكثير من محرك يعتمد فقط على فلز يتحرك ذهابًا وإيابًا في الماء، لكن الدليل موجود في الجهاز.”

حتي هذه اللحظة، لا يزال هذا الدليل نموذجًا أوليًّا في مكاتب “إكسيرجين” في “دبلن”. وهو قادر على ضخ ما يزيد على خمسة كيلو واط من الكهرباء، وضخ هذه الكمية لمدة 24 ساعة من شأنه أن يزوِّد أربعة منازل أمريكية بالكهرباء لمدة يوم واحد.

وسوف تبدأ أول اختبارات ميدانية فعلية في العام المقبل، إذ ستخصص “إكسيرجين” جزءًا كبيرًا من مبلغ قيمته 9 ملايين دولار، حصَّلته من المستثمرين ومن المنح، لتركيب محركات تجريبية بقدرة 10 كيلو واط في العديد من مصانع الغاز الحيوي في دبلن.

ويعتقد “هيلي” أن التجارب سوف تتمخض في النهاية عن طريقٍ مؤدٍ إلى الكفاية في استخدام الطاقة، وهو طريق سيكون فعالًا من حيث التكلفة، مضيفًا: “لن تفعل الشركات الصواب، إلا إذا أعطيتهم خيارًا يوفر لهم المال”.

اقرأ في الموقع